فصل: تفسير الآيات (1- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ويعدهم أجر المؤمنين عند الله. الذي لا يمطل المتعاملين معه- حاشاه-!
{إن الله سريع الحساب}..
ثم يجيء الإيقاع الأخير، في نداء الله للذين آمنوا، وتلخيص أعباء المنهج، وشرط الطريق:
{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}..
إنه النداء العلوي للذين آمنوا. نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء.
والتي تلقي عليهم هذه الأعباء. والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء:
{يا أيها الذين آمنوا}.
النداء لهم. للصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى..
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى.. يذكران مفردين، ويذكران مجتمعين.. وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة، وإلى المرابطة والتقوى، فيكون هذا أنسب ختام.
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة. إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء.. الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة. من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحياناً في الخير، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع..
والصبر على هذا كله- وعلى مثله- مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل.. لا تصوره حقيقة الكلمات. فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة. إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي. فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء. كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه..
والمصابرة.. وهي مفاعلة من الصبر.. مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين.. مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة. بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء. فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار.. ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء.. وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة.. الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء.. وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس.
وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد، حيثما كانت إلى آخر الزمان!
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي. منهج يتحكم في ضمائرهم، كما يتحكم في أموالهم، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم. منهج خير عادل مستقيم. ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة.. ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان. ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال. وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار. وينهد لحربها المستهترون المنحلون، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات.. ولابد من مجاهدتهم جميعاً. ولابد من الصبر والمصابرة. ولابد من المرابطة والحراسة. كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل..
هذه طبيعة هذه الدعوة، وهذا طريقها.. إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم.. وهي واجدة أبداً من يكره ذلك المنهج وهذا النظام. ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد. ومن يتربص بها الدوائر. ومن يحاربها باليد والقلب واللسان.. ولابد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها، ولابد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام!!
والتقوى.. التقوى تصاحب هذا كله. فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل؛ ويحرسه أن يضعف؛ ويحرسه أن يعتدي؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك.
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات..
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات. وهو جماعها كلها، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها.. ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار:
{لعلكم تفلحون}.
وصدق الله العظيم.

.سورة النساء:

.تفسير الآيات (1- 14):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}
هذا الشوط الأول في السورة يبدأ بآية الافتتاح، التي ترد الناس إلى رب واحد، وخالق واحد؛ كما تردهم إلى أصل واحد، وأسرة واحدة، وتجعل وحدة الإنسانية هي النفس ووحدة المجتمع هي الأسرة، وتستجيش في النفس تقوى الرب، ورعاية الرحم.. لتقيم على هذا الأصل الكبير كل تكاليف التكافل والتراحم في الأسرة الواحدة، ثم في الإنسانية الواحدة. وترد إليه سائر التنظيمات والتشريعات التي تتضمنها السورة.
وهذا الشوط يضم من تلك التكاليف ومن هذه التشريعات، ما يتعلق بالضعاف في الأسرة وفي الإنسانية من اليتامى، وتنظم طريقة القيام عليهم وعلى أموالهم كما تنظم طريقة انتقال الميراث بين أفراد الأسرة الواحدة، وأنصباء الأقرباء المتعددي الطبقات والجهات، في الحالات المتعددة.. وهي ترد هذا كله إلى الأصل الكبير الذي تضمنته آية الافتتاح، مع التذكير بهذا الأصل في مطالع بعض الآيات أو في ثناياها، أو في خواتيمها، توثيقاً للارتباط بين هذه التنظيمات والتشريعات، وبين الأصل الذي تنبثق منه، وهو الربوبية التي لها حق التشريع والتنظيم، هذا الحق الذي منه وحده ينبثق كل تشريع وكل تنظيم. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}..
إنه الخطاب للناس.. بصفتهم هذه، لردهم جميعاً إلى ربهم الذي خلقهم.. والذي خلقهم {من نفس واحدة}.. {وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}..
إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جداً، وعميقة جداً وثقيلة جداً.. ولو ألقى الناس أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم، وبنقلهم من الجاهلية- أو من الجاهليات المختلفة- إلى الإيمان والرشد والهدى، وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة بالناس وبالنفس واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله..
إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالاً فسيحاً لتأملات شتى:
1- إنها ابتداء تذكر الناس بمصدرهم الذي صدروا عنه؛ وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض.. هذه الحقيقة التي ينساها الناس فينسون كل شيء! ولا يستقيم لهم بعدها أمر!
إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه.. فمن الذي جاء بهم؟ أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم. فقد كانوا- قبل أن يجيئوا- عدماً لا إرادة له.. لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء. فإرادة أخرى- إذن- غير إرادتهم، هي التي جاءت بهم إلى هنا.. إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي قررت أن تخلقهم إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي رسمت لهم الطريق، وهي التي اختارت لهم خط الحياة.
إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم، ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم، ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا يشعرون! وعلى غير استعداد، إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد.
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق..
إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم، وخطت لهم طريق الحياة فيه، ومنحتهم القدرة على التعامل معه، لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء، وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء، وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير. وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم، وأن تشرع لهم أنظمتهم وقوانينهم، وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم. وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون، فيرجعون إلى النهج الواحد الذي أراده الله رب العالمين.
2- كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة، تتصل في رحم واحدة، وتلتقي في وشيجة واحدة، وتنبثق من أصل واحد، وتنتسب إلى نسب واحد:
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}..
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة، التي نشأت في حياتهم متأخرة، ففرقت بين أبناء النفس الواحدة، ومزقت وشائج الرحم الواحدة، وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية، وصلة النفس وحقها في المودة، وصلة الربوبية وحقها في التقوى.
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً باستبعاد الصراع العنصري، الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت، وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة؛ في الجاهلية الحديثة، التي تفرق بين الألوان، وتفرق بين العناصر، وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة، وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم، وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة.
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً كذلك باستبعاد الاستعباد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي، الذي تسيل فيه الدماء أنهاراً في الدول الشيوعية، والذي ما تزال الجاهلية الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها، لتسويد طبقة واحدة، ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع، والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع!
3- والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة {خلق منها زوجها}.. كانت كفيلة- لو أدركتها البشرية- أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة، التي تردت فيها، وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة، وتراها منبع الرجس والنجاسة، وأصل الشر والبلاء.